هذه رواية تختلف إختلافًا جذريًا عن السائد والمألوف.. سواء على مستوى الفكرة التي قسمها الكاتب إلى خطين دراميين متوازيين.. أحدهما واقعي والآخر ملحمي يستلهم الحلم والكابوسية.. أو على مستوى اللغة التي تقارب لغة المتصوفة العارفين.. وكذلك على مستوى المؤثرات والبنية السردية التي مازج فيها بين الواقعي التعبيري الصريح؛ والأسطوري الذي يضج بالرموز والتأويلات والنبوءات..
النص مكتوب بأسلوب القصة القصيرة العتيد.. وأعتقد أن هذا ليس عيبًا.. المشكلة توجد حين يحدث العكس ويتم إستخدام الأسلوب الروائي في القصة القصيرة.. لكن الكاتب يطغى عليه أسلوب القصة القصيرة أكثر من اللازم فيقفز قفزات واسعة ويختصر الأحداث وكأنه يلخصها أو كأنه عبء يتخلص منه في أقصر فقرات ممكنة.. رغم ذلك لا ننكر سحر اللغة وروعة الوصف والبناء اللغوي الغير طبيعي والتكوينات الشعرية التي تفيض بها الرواية وكذلك الأجواء والمؤثرات التي تلمح فيها تناصًا نوعيًا مع جحيم الكوميديا لـ(دانتي)؛ وكذلك ملامح من "مملكة زانادو" في قصيدة (روديارد كبلنج).. كما أن هناك لمحات من عوالم الميثولوجيا الإغريقية لكن دون شبهة محاكاة أو تقليد..
"أطفال يحملون شموعًا لا تنطفئ أو تذوب, يزفون عرائس, يتلاشون عند الأفق..
- الغاية مدركة..
شلالات ماء وجداول عذبة, حبوب ملقاة, وعصافير جنة.
- البدء ماء والكون كلمة..
قصاصات ورق, طيرتها الحروف.."
تبدأ الرواية بميلاد وموت.. وتنتهي بميلاد وموت.. وترى أن اختيار الكاتب للشخصيات ينم عن ذكاء شديد.. فالشخصيات التي هي عادية في ظاهرها تشعر أنها مسيرة في حياتها تحت وطأة الإنكسارات والظروف القاسية.. الموت.. المرض.. الفقر.. القهر.. لكنها لا تستسلم للواقع.. ولا حتى تسايره.. بل هي تخوض غمار صراع وكفاح.. وهذا الصراع إن بدا عاديًا وطبيعيًا في الحكاية الواقعية؛ يظهر الدور المتمم للحكاية الأسطورية.. فتشعر كلما تعمقت في القراءة كأنك كنت في قاع بئر مظلم ثم تخرج بك الشخوص تدريجيًا إلى دنيا النور عبر حياة برزخية لم يهمل تفاصيلها.. الفكرة أنه هنا يعمل إنقلابًا حادًا في المفاهيم والقناعات.. فإن افترضنا أن الخط الأسطوري هو مرآة للخط الواقعي الأصلي الذي يمثل الحكاية الأصلية؛ فدنيا النور عنده تساوي الموت وهو مآل البطلة في النهاية في الخط الواقعي.. لكنك في أثناء القراءة تكاد تبصر الرابط بين الحكايتين خصوصًا عند نهاية وبداية كل فقرة بحيث تشعر أن نهاية الفقرة الواقعية تسلمك بسهولة وانسيابية إلى بداية الفقرة الأسطورية التي تليها والعكس بالعكس وكأنه كابوس تفيق منه أو حياة يغلبك فيها النوم إلى كابوس آخر.. الحكاية الأولى التي هي عادية بميلادها وحياتها وموتها وبعثها كانت تحتاج تفاصيل ودراما وصراع أكثر تنعكس صورته بشكل أكثر وضوحًا على مرآة الحكاية الثانية التي هي عالم النفق.. والتي يمكن إعتبارها بسهولة ما يوازي عالم "هيدز-مملكة الموتى" في عالم الميثولوجيا الإغريقية.. ويمكن إعتبار العجوز المعادل الموازي لـ(خارون) الذي كان يحمل الموتى بقارب إلى العالم السفلي.. والرحلة نفسها تشبه إلى حد كبير رحلة (أورفيوس) الملحمية لإستعادة زوجته (يوريديس) من عالم الموتى.. حتى النهر نفسه هو نهر (ستيكس) في عالم الأساطير الإغريقية..
"سحب كثيفة تفر من وسط السماء, وأسراب طيور هدها التحليق, ومدائن لا تنير..
- النور قابع يا سالم
فتيات تُزف بدموع حزينة, وزغاريد حبيسة..
- الفتيات عواقر يا ولدي.."
هذه رواية بديعة حقًا.. رواية تختلف إختلافًا كليًا عن السائد والمألوف.. رواية بديعة من كاتب بديع..